image

قرية "ميت أبوالكوم" معرض مفتوح عن أنور السادات في مئويته

02 من يناير 2019
10:01 PM
العرب اللندنية - القاهرة

اكتسب متحف قرية “ميت أبوالكوم” في محافظة المنوفية بدلتا مصر زخما مع الاحتفال بمئوية الرئيس الأسبق محمد أنور السادات قبل أيام، متغلبا على العقبات السياسية التي جعلته منبوذا منذ افتتاحه قبل 23 عاما، ومستفيدا من سياسات النظام الحالي الذي يعتبر نفسه ليس منقطعا عن خطط الرئيس الأسبق في التوجهات السياسية والإصلاحات الاقتصادية.

داخل قصر ضخم على بعد 100 كيلومتر من القاهرة، يقع متحف “ميت أبوالكوم”، مسقط رأس الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، الذي يضم مزاوجة بين قصة صعود أحد أبناء الفلاحين البسطاء إلى كرسي الرئاسة، ونحو 150 صورة لم يستغرق التقاطها لحظات تختصر سنوات من تاريخ مصر وتنقلاتها من الملكية إلى الجمهورية ومن الاشتراكية إلى الانفتاح ومن الحرب إلى السلام.

يحوي المتحف تاريخا أبعد بكثير من مقتنياته منذ أن كان مخصصا كقاعة لاستقبال الرؤساء والزعماء، من بينهم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الذي زار القرية في السبعينات من القرن الماضي، ليحول السادات قرية ميت أبوالكوم المغمورة إلى ما يشبه العاصمة الثانية للحكم، تستقبل الضيوف واجتماعات مجلس الوزراء ولقاءات زعماء المعارضة، في سابقة لم تحدث بتاريخ مصر التي غالبا ما يتناسى المسؤولون فيها مساقط رؤوسهم في زحمة الأعمال والمناصب.

ورغم مرور مئة عام على ميلاد السادات ونحو 38 عاما على اغتياله، لا تستطيع قريته خلع عباءته البيضاء، وصوره لا تزال منتشرة على الجدران، كأنها مربوطة بزواج كاثوليكي على اللافتات التي يدون فيها اسمها الأصلي لصالح “قرية الزعيم”، فأي غريب يطرق أرضهم لا بد أن يكون مقصده المتحف، يتطوعون لوصف الطريق له دون سؤال، وفتح أحاديث لا تخلو من مقارنة سياسية واقتصادية واجتماعية بكل من تبعوه، ووصف أنفسهم بالأيتام منذ وفاته.

ميزة فريدة
تضم قرية ميت أبوالكوم القدر الأكبر من مقتنيات الرئيس السادات، ربما متميزة عن مكتبة الإسكندرية التي تضم ركنا افتتح رسميا عام 2009 على مساحة 250 مترا يضم بعض خطاباته وعددا من النياشين والأوسمة وتمثالا خاصا، فضلا عن متحف خاص بالقرية الفرعونية في منطقة الجيزة القريبة من القاهرة، أنشأ عام 2003 ويضم مجموعة من الصور ونماذج لخطط حرب أكتوبر 1973.

وتنفرد قرية الزعيم بمداعبة رغبة الزائرين في مشاهدة ما وراء المعروضات بالتردد على المكان الذي فضله السادات عن جميع المناطق السياحية الساحلية بمصر، ويروي متحفها عطش الراغبين في حوار مع من عايشوه بعيدا عن كرسي المنصب واستقاء ملامح جديدة عن شخصيته وإلقاء نظرة على استراحته الخاصة البعيدة عن قصره على ترعة صغيرة بين حدائق الموالح التي طالما توجه إليها مشيا على الأقدام.



وفي المتحف يمكن الحصول على لمحة ليوم كامل في حياة الرئيس الراحل بمقتنيات شديدة الخصوصية من حذاء الحمام وملابس الاستحمام والمنزل التي صنعها حائك محلي يدعى سويلم، والنظارات الخاصة وأنواع دهانات الأحذية التي استخدمها، ومعدات الحلاقة والمرايا التي استخدمها لضبط ملابسه، والبطاريات التي كان يلجأ إليها أثناء انقطاع التيار الكهربائي.

الزخم الذي اكتسبه المتحف ربما يرتبط باهتمام رسمي غير مسبوق بالسادات بتكريم زوجته جيهان أكثر من مرة وحضورها المناسبات الرسمية بجوار قرينة الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي خصص خطابا كاملا في مئوية الرئيس الراحل التي توافق 25 ديسمبر الماضي، اعتبره فيه بطلا امتلك شجاعة اتخاذ القرار ورؤية المستقبل.

وربما تكون وراء ذلك الاهتمام رؤية النظام الحالي أنه مكمل للسياسات الاقتصادية التي تبناها السادات عام 1977 برفع أسعار المواد الأساسية وزيادة الجمارك على البضائع المستوردة والتي تراجع عنها بعد موجة تظاهرات عرفت بـ”انتفاضة الخبز″، ولا يزال المسؤولون الحاليون يعتبرونها بداية التبشير بالإصلاح الحقيقي ويسيرون على دربها بتخلص الدولة من الدعم وتخفيف دورها في الاقتصاد.



ولم يلق الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر الاهتمام ذاته في مئويته التي حلت في 2018 أيضا وبفارق 11 شهرا قبله عن السادات التي تعتبر ابنته رقية في آخر لقاءاتها الإعلامية النظام الحالي امتدادا لوالدها، فالسادات أعاد بناء الجيش في ثلاث سنوات وتبنى خطط تنمية عمرانية وتوسع في الصحراء ببناء المدن الجديدة، مثلما يفعل السيسي حاليا.

وما يعزز من تلك الرؤية أن شهرة المتحف بدأت منذ تولي السيسي الحكم، وتأكيد القائمين عليه أن نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك وراء إهماله حسدا على شعبية سابقه الطاغية داخل قريته ومحافظة المنوفية، على عكس مبارك الذي لم يزر قريته كفر مصلحة التابعة للمحافظة ذاتها طوال تاريخه، واعتبروا ذلك نوعا من الإهمال، وصل إلى ترك مشروعات القرية التنموية كمباني الطاقة الشمسية للتهدم تماما دون تدخل بالصيانة أو الإصلاح.

ويقول عاملون بالمتحف إنه كان “عقابا من وزراء الثقافة السابقين الذين عرضوا شراء المتحف وضمه إلى حزمة المؤسسات الثقافية التي تديرها وزارتهم، وقوبل عرضهم بالرفض من عائلة السادات التي فضلت اعتباره ملكية خاصة تتولى إدارتها لجعله مفتوحا للراغبين مجانا ومن دون أي تدخل حكومي في طبيعة عمله أو تعيين العاملين به”.

وتتحاشى عدسات المصورين في المتحف عدة صور ترصد العلاقة بين السادات ومبارك داخل المؤسسة العسكرية وخارجها بعد تولي الأخير منصب نائب رئيس الجمهورية بلحظات من التفكير المشترك والضحك وحتى الاستقبال والوداع أثناء الزيارات الخارجية، لتتماشى مع فترة ما بعد ثورة 25 يناير 2011 التي تتحاشى التطرق لمبارك على الأصعدة كافة وحتى في ذكرى انتصارات 6 أكتوبر 1973 التي تولى فيها قيادة القوات الجوية.

ويقدم المتحف تطورا لحياة السادات منذ أن كان صبيا بالقرية وشابا في الخدمة العسكرية ثم زوجا وأبا ورئيسا، متطرقا إلى جوانب الأديب والصحافي التي سيطرت على جزء من حياته بتأليفه 13 كتابا مثل “البحث عن الذات” و”30 يوما في السجن” وأعدادا من مجلة “التحرير” التي نشر بها عددا من المقالات خلال فترة الخمسينات تحدث فيها عن أحوال مصر وعلاقتها بالخارج.

وتتماشى الكثير من المعروضات مع الصورة الذهنية التي رسمها صاحبها لذاته كـ”رئيس مؤمن” بمسبحته وساعته اليدوية المنقوشة علي ظهرها آية الكرسي كاملة وسجادته الخاصة والعديد من نسخ القرآن الكريم مختلفة الأحجام والطبعات وصور لأدائه فريضة الحج وتقبيله الحجر الأسود، وأخرى داخل ضريح مسجد السيد البدوي أحد أقطاب الصوفية الأربعة بطنطا (90 كيلومترا من القاهرة)، والذي كان يحرص على زيارته في موالده وأمر بتوسعته وتطويره.

ويوجد في مدخل المتحف كرسي خشبي عتيق مصنوع على الطراز الإسلامي تكفل السادات بصناعته لشيخ قريته عبدالحميد عيسى الذي حفظ القرآن على يديه ووضعت صورته أثناء احتضانه للرئيس الراحل وبجوارها جملة منحوتة على رخام نصها “في النهاية لا يصحُ إلا الصحيح”، ويقول العاملون بالمتحف إن السادات قطع زيارة خارجية له خصيصا لحضور تشييع جنازته تقديرا ووفاء لدور أهل القرآن والعلم.

ويتعدى المتحف بكثير إمكانية وضعه في بوتقة واحدة مع متاحف الفنانين والمشاهير بمصر كأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، بثرائه بوثائق مصورة عن الصراع “العربي-الإسرائيلي” وتطورات أحداثه بين الانكسارات والانتصارات وصولا لتوقيع اتفاقية السلام، لتلخص صوره تطورات ما بعد الحرب بخطاب السادات بنصر أكتوبر وزيارته للكنيست الإسرائيلي وانتهاء بنسخة من اتفاقية كامب ديفيد.

ويضم أيضا غرفة ذهبية (استقاء من قيمة محتوياتها) تحتوي على العشرات من الصور أبرزها زيارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لميت أبوالكوم وتجوله داخلها وتناوله طعاما شعبيا من إعداد الأهالي، وزياراته إلى القدس وخطابه بالكنيست الإسرائيلي وأخرى مع زعماء إسرائيل مناحم بيغن وغولدا مائير وشمعون بيريز، بجانب بعض العُملات الذهبية والفضية التي تم إهدائها له والأواني الخاصة بالطعام محلية الصنع التي اعتاد استخدامها في لقائه بالضيوف.

للملابس حكايات
للملابس داخل المتحف حكايات بعدة عباءات ريفية معلقة أو موضوعة على الكراسي بينها واحدة بيضاء اعتاد على ارتدائها في حواراته التلفزيونية، وعصاه الخشبية وغليون التدخين الذي لم يفارق فمه، إلى جانب الملابس العسكرية التي ارتداها طوال خدمته وحتى البدلة التي ارتداها في حادث اغتياله وظلت معروضة كما هي مضرجة بالدماء قبل إهدائها لمكتبة الإسكندرية قبل شهور والاكتفاء بعرض صورتين لها.

ورغم كثرة الملابس الرسمية التي ارتداها السادات في زيارته للخارج والمعروضة بالمتحف، يجذب الأنظار “الكرافت” المثير للجدل الذي ارتداه في زيارته للكنيست الإسرائيلي ويحمل نقشا طوليا لسلسلة من الصلبان المعقوفة التي يمقتها الإسرائيليون باعتبارها شعارا للنازية.

ويقول عطية عاطف مدير المتحف إن مكتبته تضم نحو 265 كتابا ألفها باحثون ومفكرون محليون وأجانب عنه، وتتحدث معظمها عن دهائه السياسي وبعضها مشفوع بإهداء خاص، ومكتبة أخرى سمعية وبصرية بشاشة عرض كبيرة وأفلام تسجيلية تؤرخ وقائع هامة، وجهازا مسجلا للأغاني وشرائط للمطربة أسمهان التي عشقها ومسجلا آخر لجلسات البرلمان.

ويضم المتحف كلمات خطها السادات بيده بعضها منقوش على أحجار أو أوراق أشهرها “قل الحق دائما ولا تستمع إلا لكلمة الحق ولا تصاحب الرجل الجشع ولا تخالط الحاقد”، تتوسط غرفة استقباله للضيوف بالقصر الرئاسي التي شهدت أسرار حكمه، وصالونا عربيا “قعدة بلدي” خصصه لاستقبال أهالي قريته والاستماع لمشكلاتهم وحلها.



ويضيف عاطف لـ”العرب” أن المتحف تبنى جولة من الترويج عبر إنشاء موقع إلكتروني خاص وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي ليجذب نحو 18 ألف زائر سنويا منهم 8 آلاف أجنبي، وبات المقصد الرئيسي للرحلات المدرسية، حيث يقدم خدماته مجانا للزائرين وفي أي وقت من أوقات العمل الرسمية الممتدة من التاسعة صباحا حتى الثالثة عصرا.

وربط السادات بين تطورات حياته وقريته ليعود في عيد ميلاده الستين بمشروع لتنميتها وتطويرها بعائد بيع كتابه “البحث عن الذات” وقيمة جائزة نوبل للسلام ليتحول قصره من بيت السادات إلى “دار السلام” ويغير طريقة تفكير أبنائها في المستقبل من الوظائف المدنية كالطبيب والمهندس إلى العسكرية، فأطفالها الصغار حتى الآن يحلمون بسلك الجندية أملا في تكرار نموذج صعوده.

وتعيش قرية السادات على حكايات الماضي، لكل شخص قصة يتناقلها عنه زعيمهم بتقديره لمحفظ القرآن الذي علمه وإلقاء السلام عليهم بالاسم، أو قيلولته على أريكة استراحته بجوار الترعة نهارا دون قلق أو حراسة، أو سماحه لصانعة الفطائر بدخول القصر فورا بمجرد علمها بقدومه، أو حتى حائك ملابسه الذي ظل يخيط له بعضها حتى اغتياله، وانتهاء بعدم تكبره على الجلباب الريفي الذي تربى عليه حتى بعد ارتدائه أحدث الماركات العالمية.


avatar
عدد التعليقات: 0